\
. قال : عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس
لما حضرته الوفاة وقد جمع بنيه وقومه فخطبهم وأوصاهم -وكان قد مضى له من العمر
(ثمانمئة سنة، منها أربعمائة سنة سيداً شريفاً، وأربعمئة ملكاً مملكاً- فقال لهم: قد أسمعكم
الداعي ونفذ فيكم البصر ولزمتكم الحجة، وانتهى بكم الأمر إلى حد الرجاء، ومرجو
حسن القضاء، فليس أحد أعظم في خلقه رزية ولا في أمره بلية ممن ضيّع اليقين وغره
الأمل، وإنما البقاء بعد الفناء. وقد ورثنا من كان قبلنا وسيرثنا من يكون بعدنا، وقد حان
الرحيل من محل زائل وظل مائل، ألا وقد تقارب سبب فاحش وخطب جليل فاستصلحوا
ما تقدمون عليه، وارضوا بالباقي خلفاً من الفاني سلفاً، وأجملوا في طلب الرزق، واحتملوا
المصائب بأحسن الاحتساب تستجلبوا النعماء. واستديموا الكرامة بالشكر قبل العجلة
إلى النقلة وانتقال النعم ودول الأيام وتصرف الحالات، فإنما أنتم فيها أهل للمصائب وطريق
للمعاطب، فاتنهوا، ودعوا المذاهب في هذه الغرّارة الضرّارة أهلها، في كل يوم لهم جرعة
شرق، ومع كل أكلة غصص. ولن تنالوا فيها نعمة إلا بفراق أخرى، فأنتم الخلف بعد
السلف، تفنيكم الدهور والأيام، وأنم أعوان الحتوف، وعلى أنفسكم وفي معاشكم أسباب
مناياكم، لا يمنعكم شيء منها، ولا يغنيكم شيء عنها. في كل سبب منكم صريع
ومعترف. وهذان الليل والنهار لم يرفعا شيئاً إلا وضعاه، وهما جديران بتفريق ما جمعاه.
أيها الناس اطلبوا الخير ووليه واتركوا الشر ووليه، واعلموا أن خيراً من الخير عامله، وأن
شراً من الشر فاعله. ثم التفت إلى بنيه وأنشأ يقول:
تجدَّدَ لحمي يا بنيَّ وأقشعتْ ** سحائِبُ جهليْ واسترحتُ عن العذلِ
وودَّعتُ إخوانِي الشَّبَاب وغرَّنِي ** غوايَ وعرَّيتُ المطيَّة من رحْلِ
وأصبَحتُ أخطُو أسبُرُ الأرضَ بالخُطا ** دبيباً كما يَخطُو المُقيَّد بالغلِّ
وقدْ كُنتُ غَضَّاً في الشَّبابِ وعيشهِ ** كَلَدنٍ من الخَطِّي أو مُرهَفٍ نصل
أجدُّ وأُمضِيْ في الأمورِ إذا دحت ** قوَادحُها بالعَزمِ والجِدِّ لا الهزلِ
فلمَّا رأيتُ الدَّهرَ ينقُضُ مِرَّتي ** كما انتقضتْ بعدَ القُوَى مِرَّةُ الحبلِ
فَزِعتُ إليكُمْ بالوصَّيةِ فاحفظُوا ** وصاتِي وبادرتُ التَّغيُّر مِنْ عَقلِيْ
بنيَّ حلبتُ الدَّهرَ بالدَّهرِ بُرهةً ** وذُقتُ بِهِ طَعمَ الممرِّ مِنَ المُحلِيْ
وقايستُ أخلاقَ الرِّجالِ فلم أجِدْ ** لذي شرفٍ فيها عُلُوّاً مع البُخلِ
ولمْ أرَ مثلَ الجُودِ داعٍ إلى العُلا ** ولا كالنَّدى داعٍ إلى شرفٍ معلي
وأدركَ عُمرِي السَّدَّ قبلُ انهدامِهِ ** وعهدِيْ به إذ ذاكَ مُجتمِعُ الشَّملِ
ونحنُ مُلُوكُ النَّاس طُرَّاً وما لنا ** نظِيرٌ بِحزنٍ في البِلادِ ولا سهلِ
وقُدتُ جيادَ الخيلِ من سدِّ مأربٍ ** إلى يثربِ الآطامِ والحرث والنّسل
وأدركتُ رُوحَ اللهِ عيسى بنَ مريمٍ ** ولستُ لعمرُ اللهِ إذ ذاكَ بالطِّفلِ
إذا متُّ فانعونِي إلى كُلِّ سيِّدٍ ** شريفٍ وأعلُوا بالرَّزيةِ والثُّكلِ
وكُونُوا على الأعداءِ أُسداً أعِزَّةً ** وقُومُوا لتشييد المَعَالي على رحلِ
وإِنْ قامَ مِنكُمْ قائِمٌ فاسمعُوا لهُ ** ولا تخذُلُوهُ إنَّما الذُّلُ في الخذلِ
وكُونُوا لهُ حِصناً حصيناً ومعقِلاً ** منيعاً وأبلُوا يا بنيَّ مع المُبلِي
وإنْ ظالمٌ من قومِكُمْ رامَ ظُلمكُمْ ** فأغضُوا وحامُوا يا بنيَّ على الأصلِ
فلمْ يعدُ يوماً ظالِمٌ ضُرَّ نفسِهِ ** ولا الحُلمُ أسنَى بالرِّجالِ من الجهلِ
ولا تهِنُوا أنْ تأخُذُوا الفَضلَ بينكُمْ ** على قومِكُمْ إن الرِّئاسةَ في الفضلِ
ولا تِهنُوا أن تُدرِكُوا النُّبلَ إنَّنِي ** رأيتُ ذَوي العِزِّ المُداركِ للنُّبلِ
وإنْ مِنكُمُ جانٍ جنى مُصمَئلَّةً ** عواناً وأبدتْ عن نواجِذِها العُصلِ
وشالَت بِقُطريها تلظَّى وشبَّها ** لإضرامِها الغَاوُونَ بالحَطبِ الجَزلِ
فكُونُوا أمامَ العالمينَ بضربكُمْ ** وقومكمُ حدَّ الأسِنَّةِ والنَّبلِ
وإنْ كانَ من يَسعَى إلى الحربِ فاركبُوا ** صُدُورَ القَنَا بالخيلِ مِنهَا وبالرَّحْلِ
ومُوتُوا كِرَاماً بالقواضِبَ والقَنَا ** وما خيرُ موتٍ لا يكونُ من القَتلِ
وعافُوا المَنَايا بالضَّنا إنَّ في الضَّنا ** لخبلاً لِمنْ يَضنى يَزِيدُ على الخَبلِ
,,
. قال : عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس
لما حضرته الوفاة وقد جمع بنيه وقومه فخطبهم وأوصاهم -وكان قد مضى له من العمر
(ثمانمئة سنة، منها أربعمائة سنة سيداً شريفاً، وأربعمئة ملكاً مملكاً- فقال لهم: قد أسمعكم
الداعي ونفذ فيكم البصر ولزمتكم الحجة، وانتهى بكم الأمر إلى حد الرجاء، ومرجو
حسن القضاء، فليس أحد أعظم في خلقه رزية ولا في أمره بلية ممن ضيّع اليقين وغره
الأمل، وإنما البقاء بعد الفناء. وقد ورثنا من كان قبلنا وسيرثنا من يكون بعدنا، وقد حان
الرحيل من محل زائل وظل مائل، ألا وقد تقارب سبب فاحش وخطب جليل فاستصلحوا
ما تقدمون عليه، وارضوا بالباقي خلفاً من الفاني سلفاً، وأجملوا في طلب الرزق، واحتملوا
المصائب بأحسن الاحتساب تستجلبوا النعماء. واستديموا الكرامة بالشكر قبل العجلة
إلى النقلة وانتقال النعم ودول الأيام وتصرف الحالات، فإنما أنتم فيها أهل للمصائب وطريق
للمعاطب، فاتنهوا، ودعوا المذاهب في هذه الغرّارة الضرّارة أهلها، في كل يوم لهم جرعة
شرق، ومع كل أكلة غصص. ولن تنالوا فيها نعمة إلا بفراق أخرى، فأنتم الخلف بعد
السلف، تفنيكم الدهور والأيام، وأنم أعوان الحتوف، وعلى أنفسكم وفي معاشكم أسباب
مناياكم، لا يمنعكم شيء منها، ولا يغنيكم شيء عنها. في كل سبب منكم صريع
ومعترف. وهذان الليل والنهار لم يرفعا شيئاً إلا وضعاه، وهما جديران بتفريق ما جمعاه.
أيها الناس اطلبوا الخير ووليه واتركوا الشر ووليه، واعلموا أن خيراً من الخير عامله، وأن
شراً من الشر فاعله. ثم التفت إلى بنيه وأنشأ يقول:
تجدَّدَ لحمي يا بنيَّ وأقشعتْ ** سحائِبُ جهليْ واسترحتُ عن العذلِ
وودَّعتُ إخوانِي الشَّبَاب وغرَّنِي ** غوايَ وعرَّيتُ المطيَّة من رحْلِ
وأصبَحتُ أخطُو أسبُرُ الأرضَ بالخُطا ** دبيباً كما يَخطُو المُقيَّد بالغلِّ
وقدْ كُنتُ غَضَّاً في الشَّبابِ وعيشهِ ** كَلَدنٍ من الخَطِّي أو مُرهَفٍ نصل
أجدُّ وأُمضِيْ في الأمورِ إذا دحت ** قوَادحُها بالعَزمِ والجِدِّ لا الهزلِ
فلمَّا رأيتُ الدَّهرَ ينقُضُ مِرَّتي ** كما انتقضتْ بعدَ القُوَى مِرَّةُ الحبلِ
فَزِعتُ إليكُمْ بالوصَّيةِ فاحفظُوا ** وصاتِي وبادرتُ التَّغيُّر مِنْ عَقلِيْ
بنيَّ حلبتُ الدَّهرَ بالدَّهرِ بُرهةً ** وذُقتُ بِهِ طَعمَ الممرِّ مِنَ المُحلِيْ
وقايستُ أخلاقَ الرِّجالِ فلم أجِدْ ** لذي شرفٍ فيها عُلُوّاً مع البُخلِ
ولمْ أرَ مثلَ الجُودِ داعٍ إلى العُلا ** ولا كالنَّدى داعٍ إلى شرفٍ معلي
وأدركَ عُمرِي السَّدَّ قبلُ انهدامِهِ ** وعهدِيْ به إذ ذاكَ مُجتمِعُ الشَّملِ
ونحنُ مُلُوكُ النَّاس طُرَّاً وما لنا ** نظِيرٌ بِحزنٍ في البِلادِ ولا سهلِ
وقُدتُ جيادَ الخيلِ من سدِّ مأربٍ ** إلى يثربِ الآطامِ والحرث والنّسل
وأدركتُ رُوحَ اللهِ عيسى بنَ مريمٍ ** ولستُ لعمرُ اللهِ إذ ذاكَ بالطِّفلِ
إذا متُّ فانعونِي إلى كُلِّ سيِّدٍ ** شريفٍ وأعلُوا بالرَّزيةِ والثُّكلِ
وكُونُوا على الأعداءِ أُسداً أعِزَّةً ** وقُومُوا لتشييد المَعَالي على رحلِ
وإِنْ قامَ مِنكُمْ قائِمٌ فاسمعُوا لهُ ** ولا تخذُلُوهُ إنَّما الذُّلُ في الخذلِ
وكُونُوا لهُ حِصناً حصيناً ومعقِلاً ** منيعاً وأبلُوا يا بنيَّ مع المُبلِي
وإنْ ظالمٌ من قومِكُمْ رامَ ظُلمكُمْ ** فأغضُوا وحامُوا يا بنيَّ على الأصلِ
فلمْ يعدُ يوماً ظالِمٌ ضُرَّ نفسِهِ ** ولا الحُلمُ أسنَى بالرِّجالِ من الجهلِ
ولا تهِنُوا أنْ تأخُذُوا الفَضلَ بينكُمْ ** على قومِكُمْ إن الرِّئاسةَ في الفضلِ
ولا تِهنُوا أن تُدرِكُوا النُّبلَ إنَّنِي ** رأيتُ ذَوي العِزِّ المُداركِ للنُّبلِ
وإنْ مِنكُمُ جانٍ جنى مُصمَئلَّةً ** عواناً وأبدتْ عن نواجِذِها العُصلِ
وشالَت بِقُطريها تلظَّى وشبَّها ** لإضرامِها الغَاوُونَ بالحَطبِ الجَزلِ
فكُونُوا أمامَ العالمينَ بضربكُمْ ** وقومكمُ حدَّ الأسِنَّةِ والنَّبلِ
وإنْ كانَ من يَسعَى إلى الحربِ فاركبُوا ** صُدُورَ القَنَا بالخيلِ مِنهَا وبالرَّحْلِ
ومُوتُوا كِرَاماً بالقواضِبَ والقَنَا ** وما خيرُ موتٍ لا يكونُ من القَتلِ
وعافُوا المَنَايا بالضَّنا إنَّ في الضَّنا ** لخبلاً لِمنْ يَضنى يَزِيدُ على الخَبلِ
,,